هي هجرةٌ أخرى ..
فلا تكتبْ وصيتكَ الأخيرةَ و السلاما
سقطَ السقوط ُوأنتَ تعلو
فكرةً و يداً و شاما
إن المتابع لسيرورة تجربة شاعرنا الكبير محمود درويش الإبداعية الشعرية يدرك أنها مرّت في سبعينيات القرن الماضي بمراحل هامة اعتبرت نقطة تحول في حراك القصيدة ودهشتها بدءاً من مجموعته ” أحبكِ أو لا أحبّكِ ” و خصوصاً قصيدته / سرحانُ يشرب القهوة في الكافتريا / أو قصيدة أحمد الزعتر في ديوانه ” أعراس ” هي مرحلةُ مغادرته لأرضه و شعبه جرّاء القهر و الإذلال وزحف الاستيطان لتفتح الآفاق و الرؤية أمامه شعرياً وحياتياً , فمثّل أرضه وشعبه في كل محفل شعري واجتماعي وسياسي وثقافي فكري حضره في بقاع الأرض , وكان الزيتون في اخضراره والطيون في عبقه , والطفولة في نقائها .. كان الأمهات في قلقهن على أبنائهن في مساءات الحروب , وكان الأب المشمّر عن ساعديه في أقاصي الكروم .. كان كالنسر يزداد صفيره كلّما مرّ بأعشاشه القديمة القديمة .
ومع التسعينيات وبإصداراته الجديدة بدأ النضوج واكتمال الرؤية و التجربة لديه , و بدأ الحديث عمّا أصاب درويش من انتقال وتبدّلٍ في حراكه الشعري الثوري المقاوم إلى حراكه العاطفي الجياش المتوهج بين نهدين من حريرٍ وغمامٍ حليبيّ ناصعٍ , الانتقال من يا أحمد العربي قاوم إلى سلّم على بيتنا يا غريبُ .. من هنا القدس إلى حبّ في سرير الغريبة .
إنه الحراك الاجتماعي الحياتي المختلف مع الآخر ..مع الأنثى ..مع مفردات الحياة من سلام و معاشرة و مهادنة و حوار مثلته مجموعته ” لماذا تركت الحصان وحيداً ” و أيضاً ” سرير الغريبة ” إذ كثر اللغط عند من يريدونه أن يبقى ينادي و دائماً ” عربٌ ولا نخجل – فلسطينية العينين و الوشم فلسطينية الاسم – أنا عربي بلا اسم .. بلا لقبِ ”
انه الشاعر الذي يكتبُ عن الثورةِ بذات الألق الذي كتب عن المرأة .. يكتب عن البندقية و المقلاع ويكتب أيضا عن النهد و لأردافِ .. يكتب عن أزيز الرصاص ويكتب عن أنات النشوة .. فالمرأة لديه نهرٌ وتلالٌ وغاباتٍ .. هي وطنٌ وكذلك الأرض لديه حبيبة مفتوحة الأمداء و الأفاقِ .. و الأرض أم حنون .
في كثير من المواقف والدراسات حاولوا أن يختزلوا درويش بقصيدة أو قصائد ما , وهذا ما حدث مع مظفر النواب في أماسيه الشعرية واللقاءات التلفزيونية.. فالحضور أول ما يردد مطالباً بقراءة قصائد السباب و الشتم ” أبناء القحبة ” مثلاً و هذا ما سبب أو يسببُ له الاستياء.. فالشاعر دائماً لديه قصائد جديدة قد لا تكون شتائمية ولكنها أجمل و أسمى فنياً رغم أنها ليست جماهيرية . وأسجل هنا أني لست مع من ينادي بأن يكون الشاعر جماهيريا و خصوصاً في مرحلةٍ كهذه إذ لا رهان .. وأقول لا رهان على الذائقة الجماهيرية الجمعية بسبب ما تخللها ولعقود من تشويه وتخريب كما أنني لست مع الشاعر النخبوي الفوقي الذي ينتجُ نصّاً أقربَ إلى الهذيانات الشخصية ..
عباس حيروقة