لعل الحقيقة التي يعرفها الجميع أن الناس سواسية أمام الموت, ولكنهم ليسوا كذلك في ماقدموه وأنجزوه في حياتهم المديدة أو القصيرة التي عاشوها على هذه البسيطة.. فكثيرون هم الذين عاشوا ورحلوا دون أن يكون لهم أثر يذكر في حياتهم أو مماتهم.. فذهبوا بصمت كما كانوا في حياتهم كلها صامتين فلم يقدموا شيئاً ذا بال يذكرون به ..
وقليلون هم الذين أدركوا أن الحياة قصيرة, وينبغي أن تكون حافلة بالعطاء .. فلم تنته حياتهم برحيلهم, لأنهم خلّفوا من الآثار العلمية مايجعلهم خالدين في عقول الناس وقلوبهم.. وقد قيل: العظماء يرحلون ولايموتون..
هذا هو شأن القلة القليلة التي يجود بها الزمان على أهله بين حين وآخر.. ومن هذه القلة المفكر والباحث العلاَّمة الدكتور عبد الكريم اليافي الذي رحل في مثل هذا اليوم تاركاً خلفه مؤلفات كثيرة، وبحوثاً ومقالات منشورة في الصحف والمجلات, وطلاباً نهلوا من علمه الغزير في جامعة دمشق فحازوا الشهادات الجامعية, والماجستير, والدكتوراه..
لقد كان ـ رحمه الله ـ يجمع بين تواضع العالم ورقّة الأديب, كما كان مثالاً للعالم الموسوعي الذي يحيط بعلوم شتى, ويحمل شهادات عديدة متنوعة .. فلم يترك علماً إلا أخذ منه بطرف, وأجاد فيه, وأحسن نقله لطلابه وقرّائه.. لم أشأ أن تمر ذكرى رحيله دون أن أكتب عنه أسطراً قليلة ـ هي من غير شك ـ لن تفي هذا الرجل حقه.
ومما أتذكره أن أحد مقدمي برنامج ثقافي في إحدى القنوات السورية قد ذكر أنه كثيراً ماوقع في ورطة حين يعتذر فجأة أحد الضيوف يوم تقديم الحلقة مباشرة على الهواء, فيتصل بالدكتور اليافي فيلبي طلبه فيكون متحدثاً ناجحاً دون تحضير, ومن غير أن يعرف موضوع الحلقة فينقذ مقدم البرنامج من ورطته.
إنه فيلسوف وناقد وباحث وشاعر يجيد الحديث بأكثر من ست لغات عالمية.. وقد كان الاعتدال وعدم التطرف في كل شيء , منهجه في الحياة.. وحين أبدى له أحد طلابه عدم رغبته بالزواج متأثراً بصحبته للشاعر أحمد الصافي النجفي، لم يوافقه الرأي, ونصحه بالزواج قائلاً له: إن زوجتي كانت خير معين لي, وأفضل مؤنس, وقد سهرت معي الليالي في درب الكفاح الطويل.
رحم الله العلاَّمة اليافي الذي رحل عنا بجسده, وبقيت روحه حاضرة دائماً بيننا, وذلك بما خلّفه من كنوز ثمينة.
د.موفق السراج