كنا قد تحدثنا غير مرة عن مسألة جد هامة، وتعتبر من بداهة الثقافة ومن أبجدياتها الألف بائية، ألا وهي تقبّل الرأي الآخر وقبوله، باعتبارها من أبسط الحقوق التي يجب أن نتمتع بها ونعمل على تعزيزها لتصبح سمة خاصة يتسم بها حقلنا هذا حقل الثقافة والمعرفة، ومن ثم تنتقل تجاه جميع مفردات حياتنا اليومية.
وظاهرة الاختلاف في الرأي جد حضارية وضرورية، على أن لا تتطور وتصبح خلافاً وتورث العداء والبغيضة، فالغنى بتعدد الرؤى والآراء وتنوعها، وحيوية أي مشهد، أكان ثقافياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو دينياً …الخ، تتجلى في التعددية والتشاركية في ظل قانون يتيح ويسمح ويحمي ويكفل هذا الحق للجميع. كل هذا وذاك يفتح الآفاق للجميع ويدفعهم لقول رؤاهم وقناعاتهم وثقافاتهم أو طرحها، بحرية مطلقة وجرأة لابد منها.
كل هذا يؤسس لثقافة التغيير والتغيّر وفق منهج يسهم ويساهم في إعادة العمل على منظومة مجتمعية جديدة، بأدوات جديدة مغايرة ومختلفة عن سابقاتها وآخذة تجارب المجتمعات الأخرى في الحسبان، لتجاوز هنات وقعت بها تلك المجتمعات.
سُقت هذه المقدمة للحديث عن حالات لا تقبل الاختلاف عليها، لأنها لا تقبل القسمة أبداً، وتمثل أو من البداهة أن تمثل حالة (إجماعية) من الإجماع المطلق على الشيء لدى كل ذي بصر وبصيرة: الوطن، حب الوطن، حماية الوطن …الخ. والوطن هنا من حيث هو سيادة أرض وسماء وماء.
فمثلاً من الممكن أن نختلف على مفهوم الحداثة، على مشروعية قصيدة النثر، على الــ ق.ق.ج، على رائد قصيدة التفعيلة أو روادها، على مفهوم الشعر والشعرية …الخ. كل هذا جائز وممكن، ولكن مما يجب أن لا نختلف حوله أو أن لا نسمح بالاختلاف ب هاو عليه هو الوطن، حب الوطن وأهل الوطن وسيادة الوطن، وحمايته وحمايتهم.
.
هذه الحرب، منذ إرهاصاتها، وجدت لها أبواقها الشاذة والنشاز من مثقفين وساسة وعسكر ورجال دين، توزعوا وتبادلوا الأدوار تحت شعار واحد وهدف واحد وحسب هو تدمير البنية المجتمعية السورية وضرب مؤسساتها، وفق أجندات لم تكن خافية على أحد، واتضحت بشكلها السافر عقب اعترافات قادة دول ساهمت في ضخ كل ما من شانه تدمير شعب سورية وحضارة سورية.
وهنا لن أسأل عن موقف السياسي والاقتصادي والديني، ولكن أسأل: ما موقف المثقف السوري ؟؟!!!
المثقف، الذي من البداهة أن يكون أكثر قدرة وحيوية على قراءة واقعية واستكشافية واستبصارية للواقع، والذي تمكّنه من قراءة ورؤية ما خلف السور واستنباط ما يجب القيام به، ليكون كما يجب أن يكون ضمير أمة وشعب، ما موقف المثقف من اعتراف سياسي دولة ما حين قال:
إن دولته كانت تدفع لفلان وفلان من شخصيات شغلت ما شغلته من مناصب ثقافية، كما شغلت حيّزاً فكرياً إبداعياً في مرحلة ما؟؟ دفعت لهم، بهدف إطلاق تصريح هنا وتسجيل موقف هناك من شأنه زعزعة البنية المجتمعية (طائفياً) لبلده؟!
نعم، ثمة أدباء وللأسف اختاروا، في مرحلة مبكرة من الحرب، الالتحاق بالغرب أو الانضمام إلى الطرف الآخر المعادي، وأصبحوا يخوضون حرباً بمصطلحات طائفية مذهبية قومية مقيتة وغريبة عن ثقافة السوري الحقيقي.
أولئك الذين وضعوا أنفسهم في اصطفافات لا تليق بهم ولا بفكرهم ولا بمؤلفاتهم النقدية والإبداعية الأدبية.
هذه النماذج لم تكن ولن تكون لا ضمير أمة، ولا ضمير سوري ما. فإن ضميرهم يكون حيث مصالحهم وحسب..
هذا لا يلغي ولا يغيّب وجود أدباء وكتّاب كانوا على خطا أولئك الرجالات، رجالات جيشنا، حماة أحلامنا وأناشيدنا، وعلى خطا أولئك الشهداء الذين مازالوا يفتحون نوافذ الضوء والنور، ويبتسمون لنا حينما تطير عصافير قلوبنا مردّدة في كرنفال وطني سوري بامتياز: موطني.. موطني
عباس حيروقة