ما أجمل العودة إلى أيام الصبا،وذكريات الشباب….ولعل شعراء العربية لم يبكوا شيئا كما بكوا شبابهم الراحل الذي لا يمكن أن يعود،فهو سن الفتوة،والقوة،والحيوية،والحب والجمال كقول الشاعر:
ذهب الشباب فما له من عودة
وأتى المشيب فأين منه المهرب؟
أجل…إنه الزمن الجميل الذي يتمنى أي إنسان أن يجمد في مكانه،ولكن هيهات هيهات….والشاعر الكبير بشارة الخوري تمنى تلك الأمنية حين ألقى قصيدة في حفل عيد ميلاد حفيدته ابنة العشرين قائلا:
عشرون قل للشمس لا ترحل ويا عمر اجمد
وليس الحديث عن أيام الشباب هو بيت القصيد في هذا المقال،ولكن جانبا من ذكرياته تعنيني،هنا،وهو ما كنا عليه من شغف بالقراءة،واقتناء للكتب المتنوعة التي تناسب أعمارنا في تلك المرحلة،وارتياد لقاعات المطالعة العامة كي نقرأ ما يقع في أيدينا…
وأذكر أنني،مذ كنت طفلا في المرحلة الابتدائية،لم أنقطع عن الذهاب لقاعة مطالعة الأطفال في المركز الثقافي،فأقرأ في مجلة أسامة،ومجلة العربي ،والسندباد،وصحيفة الفداء،وتشرين،و…و….والصياد،وحين بلغت مرحلة الشباب ،ما برحت أرتاد قاعة مطالعة الكبار ،وأنا أقرأ وأقرأ منقبا في المصادر والمراجع المتنوعة…
وما فتئت أشتري المجلات من المكتبات ،كمجلة الناشر العربي ،والموقف الأدبي،والمعرفة،والثقافة،والكاتب العربي،والفيصل،والآداب الأجنبية، والتراث العربي،ومجلة مجمع اللغة العربية…و…و…وأقرأ مافيها بنهم،ولا تزال أعدادها عندي…كما كنت أشتري الكتب المستعملة من رصيف ساحة العاصي من مصروفي المخصص لي من والدي رحمه الله،لأنها أرخص ثمنا من الكتب الجديدة وهي الآن في مكتبتي العامرة بالكتب المتنوعة التي جمعتها على مدار عقود من الزمن…فيها القديم،وفيها الجديد…
ولعل ما دعاني إلى سرد تلك الذكريات ما أراه في جيل اليوم من عزوف عن الكتاب عامة،والمطالعة على وجه الخصوص،فثقافة شبابنا شبه معدومة لأنهم لا يقرؤون… وتسألهم عن أبسط الأمور المعرفية والثقافية فلا يعرفون… وقبل مدة كنت ألقي محاضرة على طلابي في الجامعة عن (مهارة القراءة) ،وأوردت قولا جميلا للأديب الكبير عباس محمود العقاد عن سبب اقتنائه الكتب،وسبب شغفه بالقراءة ،فذكر أنه يقرأ لأنه يريد أن يعيش أكثر من حياة، لأن كل كتاب يقرؤه يعيش فيه حياة الكاتب،وتجربته الغنية..!!
وخطر لي أن أسأل طلابي(من هو عباس محمود العقاد؟) فلم يجب أحد بكلمة،وقالوا: لا نعرفه،ولم نسمع به..فقلت: يا للطامة الكبرى!!،أديب كبير له عشرات المؤلفات في المكتبة العربية لم يسمع به هؤلاء الشباب فقلت: صدق فينا قول القائل:
إننا من أمة اقرأ،ولكننا لا نقرأ.
وأقول:من حرم نعمة المطالعة،فقد حرم نعمة كبيرة،فهي خير مؤنس للانسان في وحدته،وأفضل نديم للمرء في شيخوخته،فلا يشعر القارئ بالفراغ والوحدة والملل،كما أن القراءة تحقق لصاحبها الفائدة والمتعة في آن معا،وما أجمل قول الخليفة المأمون حين قال:(القراءة نزهة في عقول الرجال).
وفي خمسينيات القرن الماضي كان علماء بعثة دنمركية ينقبون عن الآثار في مصر، فوجدوا بناء مهدما حاروا في أمره،وإذا بهم يعثرون على حجر كتب عليه(هنا غذاء النفوس،وطب العقول) فقالوا: هذا بناء مكتبة.
د.موفق السراج