ما أن تتدحرج قطرات المطر في ازقة وطرقات قريتي المنسيّة ،الغافية على تخوم المدى، حتى تبدا المزاريب نشيجها الابدي وهي تودّع مواسم القحط والجفاف ،تمسح غبار الصيف ،لترسم من جديد خطوطاً مجدولة نحو الامل القادم بفرح تحدد ملامحه وجوه من تعبوا حتى الثمالة …
مع اول موجة باردة قادمة من الشمال تكون بواري المدفاة قد اخذت وضعيتها الأفقية والعمودية بعد ان تقاذفتها الاقدام الناعمة جيئة ًوذهابا …
مع اول رقصة لنيران المدفاة تتحلق الوجوه البريئة حولها، البيت الطيني او ما كنا نسميه «الأوضة » بسقفه الخشبي وجدرانه البيضاء العريضة يبعث في اوصالنا الدفء، والدتي رحمها الله كانت تستثمر كل موارد الطاقة المتاحة، بإدارتها الناجحة كانت تؤمّن الماء الساخن من خلال عبوة من التنك لا تغادر المدفاة ابداً وعلينا جميعاً ان نخضع للحمام في عتبة المنزل بالدور مع ما يعترينا من حرقة في العيون من ماء الصابون الذي يباغتنا لا محالة.
ثياب ضاقت على أجسادنا تتحول إلى كرات ملونة ،تتحول بانامل رشيقة ،ورؤية فنية، وحرفية عالية إلى بسط بديعة زاهية ،تتوضع في زوايا البيت ،إلى جانب جلود الصوف والتي تتوضع حول المدفأة، تنشر الدفء في أوصالنا وتعطي للمكان منظراً جميلاً بهيّا…
عندما تبدأقطرات المطر بالتسلل عبر الأسطح الترابيّة معلنةً بداية مواسم «الدلف » حتى تهرع الأسرة إلى السطح عبر سلّم خشبي متهالك، لكن لا بد من وقف الدلف، والإجراء الأولي والسريع وضع صينية تتجمع فيها قطرات المطر، موسيقا فريدة تحدثها تلك القطرات وهي تعانق الصينية، لكن الحل الطويل الامد رش التبن على السطح وعرجلته بواسطة مدحلة حجرية صغيرة حتى يتوقف الدلف بانتظار المطرة القادمة.
في الفجر تكون الوالدة قد انهت عملية العجن والخبز على التنور، نستيقظ صباحاً لنجد ارغفة الخبز قد تموضعت بجانب المدفأة بعد ان لفتها الوالدة بمئزر قماشي ، رائحة الخبز الطازج تنتشر في الغرفة وعلينا الانتظام في تناول الفطور استعداداً للإنطلاق إلى المدرسة …
لم يكن في المنزل ساعة جدارية ولا يدوية، كانت مواعيد الاستيقاظ والذهاب إلى المدرسة يحددها الراديو وخصوصاً برنامج مرحباً يا صباح والذي كان يبث في السابعة إلا ربعاً صباحاً ويستمر حتى السابعة والربع موعد نشرة الاخبار عبر إذاعة دمشق …
هي حكايات من نبض وروح ،عشناها بشغف الاطفال وفرحهم وشقاوتهم، كنا نحتفي بالشتاء على طريقتنا ، آمالنا تكبر، صور جميلة تداعب خيالنا ونحن في سنوات طفولتنا المبكرة نُمضي معها اجمل اللحظات وابهاها …
حبيب الإبراهيم