لن أتحدّث هنا في أولى مقالاتي لهذا العام عام 2021 عن مكانة الأم في الديانات السماوية وكيف حضّ الله سبحانه وتعالى على ضرورة وواجب تكريمها وكيف أنه ربط ربطاً صريحا بين مرضاته ومرضاتها ولا عن دعوة الرسل والأنبياء دون استثناء لتعظيمها ولن أتحدث عن ما فاضت به قريحة الشعراء والأدباء والفلاسفة من حكم وقصائد ومؤلفات ولن أعرّج على مواقف نساء حكمن ممالك وسسن العالم ..ولكن ما يمكن أن أتحدث به هنا هو عن كل ما سبق ذكره دفعة واحدة ..عن أمّي التي في عقدها السابع .
لن آتي على ذكر دورها في تربيتنا وتنشئتنا في ظروف استثنائية وواقع مرير على الفضيلة والمحبة لله وخلق الله ..
إذ قيّض الله لي ومنذ اندلاع الحرب على مفرداتنا اليومية دون استثناء ..على سوريتنا أن أعود إلى قريتي ( المحروسة ) بعد عشرين عاما ونيّف قضيتها في حلب ..
قيّض الله لي دون سواي من أخوتي وأخواتي وكرمني بالعودة لأن أعيش مع أمي وأعايش مفرداتها ..أن أصغي لا بل أصيخ السمع و بكل مكوناتي وطاقاتي التي خصّني الله بها إلى حديثها ..أن أتشرب تلك العذوبة الـ تفيض بها ضحكتها وأمعن بنورانية معنى لا بل معاني اللطف والسماحة التي ترشح من قسمات وجهها النبوي
عدت ذاك الطفل الذي كان ينتظر بشغف حلول المساء لتقصّ له وأخوته الحكايات العجاب ( العصفور الأخضراني ) أو حكايا حصاد تلك الأيام أيام الإقطاعي بكامل قهرها وإذلاله للأرض وللفلاح وتبدأ بترتيل تلك المواويل بصوتها الأخّاذ و الـ ( عناين )
نعم عدت أجلس قبالتها لأستمد طاقات وخبرات في قراءة مفردات السماء ..النجوم لمعرفة حال الطقس مثلاً ..عدت اصطحبها – بدل أن كانت تصطحبني – إلى الحقول والبراري لأتعلم منها أسماء بعض الأعشاب التي كان لها الفضل في سد جوعنا ونحن أطفالا نلهو ونرعى الماعز ( القرص عنة – حرت منة – الدردار – القيلوح – العنطريف – القندريس – الغزغوزة – الزعتر البري – الزوفا ..الخ )
وكما درجت مؤخرا في أيام الشتاء هذه وبهدف تبديد بعض مللها وضجرها أن أحمل مساء كل يوم ( ورق الشدّة ) لنلعب الباصرة ..اللعبة الوحيدة التي تتقنها وضمن مفرداتها الخاصة الطافحة براءة وعفوية ونقاء ..
نلعب على شرط كما تقول ..وأكثر ما يبعث فرحتي ويجعلني اضحك من كل قلبي تلك الضحكات وطريقة إطلاقها حين تنتصر عليّ ..وذاتها حين تكتشف طريقة أو محاولة ( غشّي ) تلاعبي بالورق ..يا الله كم هي عذبة نقية طيبة وآخال أن لم يخلق الله عذوبة على أو في درجتها ..
وحين تخسر ..حين انتصر عليها تحزن حزن طفل لا بل أطفال مدارس قرانا ..
تحزن وتسال نفسها كيف ولماذا خسرت ..وحين أضحك وترى ما أنا عليه من فرح تضحك تلك الضحكات ..أخال أنها تفرح لفرحي..
وحين أهم بالخروج من بيتها تربت وتمسح على كتفي وتبسمل قارئة ما خصّه الله بها من طاقات إيمانية ..فأخرجُ من بين يديها – أو هكذا أخال – ..اخرج كثوب نبي أبيض ..أبيض
نعم قيّض الله لي أن أنعم كل صباح بوجهها ..بصوتها ..بدعائها لي حين سفر ..وفرحتها بي حين عودة ..
أمي ..كتلك الأمهات السوريات الطاعنات بالحنين ..الأمهات اللواتي عشن وعايشن القلّ والعوز إلى أن ألفنه فكان صبرهن إكسيرا مازلنا ننعم به
أمهات سوريات صنعن من دموع الفقد والغربة والاغتراب زيتا مقدسا لقناديل أيامنا القادمات ..
عباس حيروقة