بداية لابد من التنويه إلى أن العنوان لا يحمل أبعاداً فلسفية ولا يحتمل تحليلا نفسيا وفق مدارس ونظريات (فرويدية) أو غيرها ولكن وبكل بساطة هي حالات سآتي على ذكرها أو التحدث بها وعنها , حالات عايشتها وما أزال في تعاملي اليومي مع والدي الذي في عقده الثامن أمد الله في أعماركم وأعمار آبائكم وصحتهم
تحدّثت في مادتي السابقة قائلاً : قيض الله لي العودة إلى قريتي بعد عشرين عاما ونيّف قضيتها في حلب لأعيش في جوار والدي ووالدتي وأعايش بعض تفاصيل يومياتهما العجيبة الحنونة ..
جميعنا اليوم وكآباء نعمل ما استطعنا جاهدين على تقديم كل ما يلزم لأبنائنا من مقومات النهوض والسير والوصول إلى بر الأمان , ولا شك أننا منعنا عن أنفسنا وحرمناها الكثير مما يلزمها في سبيل تقديمه لأبنائنا وهذه ليست منة ولكنها سنة الحياة ..نفرح أكثر ما نفرح حين رؤية أبنائنا في أحسن حال وسلام وسلامة ولو جاء ذلك على حساب ما نحتاجه نحن كآباء.
ولكن ما يمكن الحديث عنه هو ذاك الشعور الذي ينتابك وأنت ترى كيف والدك الكبير العظيم صاحب الهيبة والجبروت الذي كنت تتأهب كثيرا حين تفكر التحدث معه في شيء ..والدك الذي كم كنت تشعر بالفخر والتعظيم حين تمشي بجواره أو خلفه ..تسترق النظر لعظيم قسمات وجهه العبوس وهو يتحدث أو يدخن أو ..أو
والدك الذي كنت تخال وهو يصلي أنه هو من أيقظ الفجر ليهم في نشر الضوء بكل تؤدة على موجودات الله فيهمّ بعد ذلك بالخروج إلى عمله يتجه شرقا ويتمتم بمفردات لا يتفهمها إلا الشمس الجاثمة قبالته على تل بعيد ولا يعود إلا والشمس أيضا أمامه يدفعها تجاه المغيب وكان حديثهما لم ينته بعد .
والدك هذا اليوم هو بكامل هيبته ولكنه في منتصف عقده الثامن ..اليوم تدنو منه بكل وقار تمسك يديه تتحسس أنامله التي كنت تحلم ذات يوم أن تمسكها بيدك وكما قلّمت ذات يوم اظفار أولادك الضغار الصغار تقلم أظفاره وأنت تمازحه بحذر ..
وبعد ذلك تمسك قدمه اليمنى تضعها في ( حضنك) تقلم الظفر تلو الظفر ..وتنتقل إلى اليسرى لتكمل تقليم أظفاره ..
والدك الكبير الكبير تدخله الحمام بكل رباطة جأش ومهابة تغسل رأسه بكل حنو ..تغني له ..تخاطبه بان أغمض عينيك ..تنظف أذنيه من الصابون ..والدك هذا الذي بين يديك هو ابنك تماما ذات الشعور ينتابك وأنت تفرك جسده بالماء والصابون ..تضع المنشفة عليه ..تلبسه ثيابه ..مثل ابن لك دون السادسة من عمره ..
والدك الكبير الكبير تجلسه أمامك تضع منديلاً أسفل ذقنه قبل أن تطمعه ..تلملم عن يمين شفتيه وأسفلها بقايا طعام بطرف الملعقة..تغني له ذات الأغاني التي عنيتها يوما لولدك ..
والدك الكبير الكبير هو اليوم ابنك الصغير الصغير
شعورٌ مهيب أصيل كيف لا وأنت الأب والابن وهو بين يديك الأب والابن ..
نعم حالات تمارسها وتعيشها وتعايشها بكل هيبتها وقدسيتها وأصالتها وأنت بكامل الرضا والتسليم عن نفسك ..عن أبنائك ..عن الأيام
قيّض الله لي العودة إلى قريتي لأعيش هذا السلام والسكون الداخلي فبه انتصر على تناقضات العالم وقبحه وتغوله وبابتسامة أمي وبعض حديث أبي أراكم بداخلي بياضاً ونورا وماء يقيني ظمأ ووحشة سنوات ألف عجاف
والدك الكبير الكبير أمامك
وابنك الـ ليس بالصغير الصغير خلفك يراقبك بحبور ورضا ..
عباس حيروقة