نشأت القصة ـ عندنا ـ على الأعمّ الأغلب في أحضان الصحافة.. نشأت على استحياء على يدي كاتب قدير هو (قدري العمر)!!.
كان كتّاب القصّة آنئذ يعتقدون أن الحياة تختلف عما ترسمه القصص، فليس أهم ما فيها هو الفراق أو السفر أو الزواج!!.
وهي ـ أي القصص ـ على الأعمّ الأغلب تخلو من الأحداث الخطيرة أو الوقائع المهمة، ولكن على الرغم من ذلك فإنّ بين طياتها من الأمور العادية التي تحدث في كل يوم ما قد يعكس زوايا وأضواء ومواقف جديرة بالاعتبار (!!).
ولم يكن في رأي كاتب كقدري العمر أن يتخيّل مواقف أو شخصيات غريبة ليبتكر قصة ما، بل على العكس يكفيه أن يصوّر أفراداً عاديين في مواقف عادية كي يفسر الحياة تفسيراً سليماً ويبرز ما فيها من معان خفية (!).. ولم تكن تلك النظرة فريدة بل كان ينتمي إلى الذين حاولوا تصوير الحياة تصويراً واقعياً بكل دقائق الحياة وتفاصيلها.
والقصة التي كتبها قدري العمر في كتابه الوحيد (يحدثونك من القلب) هي قصة عادية تقترب أحياناً من لغة المقالة (!) لذلك فالنقد يتسامح كثيراً إذا ما أدرج اسم قدري العمر بين كتاب القصة البارزين ـ على الرغم من ريادته المبكرة لهذا الفن (!).
وقدري العمر لم يترك إلاّ هذا الأثر اليتيم الوحيد الذي يشير إلى اهتمامه بهذا الفن وكلفه به(!).
***
ولد (قدري العمر) في حماة عام 1899 ودرس في الكتاب ثم في المدرسة الابتدائية، ثم في إعدادية حماة، ثم في تجهيز دمشق، ثم انتقل إلى الدراسة في الكلية الصلاحية في القدس، وفي عام 1922 نال جائزة الدرجة الأولى في كتاب عنوانه (أمراضنا الاجتماعية الداء والدواء).
وكان طرح هذا السؤال النادي الأدبي في حماة على الشباب المتعلم، (كان رئيس النادي آنذاك الشهيد الدكتور صالح قنباز)!!.
وفي عام 1927 كان قدري العمر الأول في مسابقة أقامتها وزارة المعارف السورية في دمشق لتعليم اللغة العربية… وقد درس الأدب العربي في صف (البكالوريا) في حماة عام 1927 حتى عام 1947، ثم عمل مديراً لتجهيز حماة، وانتقل بعدئذ ليكون مديراً للمعارف في منطقة الجزيرة، ثم صار مديراً لمعارف حمص.
وفي عام 1950 اشتدت الاضطرابات في المدارس فترك قدري العمر العمل الوظيفي، وافتتح ثانوية خاصة في حماة اسمها (الثانوية الجديدة).. لكنه عاد إلى الوظيفة من جديد عام 1955 وعين مديراً لتربية دمشق ومحافظتها، وظل في عمله هذا حتى عام 1958 ثم نقل مديراً لتربية دمشق ومحافظتها، وظل في عمله هذا حتى عام 1958 ثم نقل مديراً للمركز الثقافي العربي في حماة حتى عام 1962 وقد توفاه الله في تاريخ 7/7/1962.
أصدر قدري العمر في (الخمسينات) مجلة النواعير، واستمر يرأس تحريرها مدة عامين كاملين، وقد نشر قصصاً فلسطينية جمعها في كتاب بعنوان (يحدثونك من القلب).
كما نشر كتابه (من الأدب) في خمسة أجزاء إلى جانب العشرات من المقالات الأدبية والفكرية والسياسية والعديد من القصص نشرت في حينها في الجرائد والمجلات التي تصدر في سورية.
والذي يعنينا من كتابه وآثاره في القصة القصيرة (يحدثونك من القلب) أنه رائد في هذا اللون الجديد من اللقاءات الحقيقية مع أبطال قصصه.
وقد أصغى إلى كل واحد ممن التقاهم، وسجل بدقة معاناتهم سجل أحاسيسهم وأحلامهم، واستطاع أن يعرف خلجات قلوبهم.
وأن يشاركهم همومهم وأحزانهم، وأملهم المستقبلي في أن يعود كل فلسطيني مهاجر أو نازح أو هارب من أتون الحرب إلى الأرض التي ولد فيها!!.
صدرت مجموعة (يحدثونك من القلب) في كتاب مميز أولاً، وقد دخل هذا الكتاب في المناهج الدراسية السورية (في الصف الثاني الإعدادي) لكنه صدر بعد سنوات في طبعة جديدة ويالها من طبعة، طبعة تجارية أساءت إلى الكتاب والكاتب معاً، بل شوهت المشهد القصصي الذي بدأه قدري العمر، ولو كان حياً ما سمح بذلك على الإطلاق، صدر الكتاب بعنوان جديد هو (عرس البطل)!! فأضاعت هذه الطبعة ما وسم به الكتاب الأصلي، وسلبته قيمته الأدبية وأفقدت بذلك الأثر الرائد وصاحب الأثر أكثر من أن تقدم أية فائدة معنوية وشتان ما بين العنوانين، العنوان الأصلي المؤثر ثم العنوان العادي الذي يشيع في زحمة عنوانات الكتب والأقاصيص والآثار الأولى لإبداعات الرواد.
نزار نجار